loading ..loading
هوية المجتمع
27th November 2022

بمناسبة الحديث عن اقتراح تعديل نص المادة (79) من الدستور بحيث يتضمن اشتراط عدم مخالفة القوانين لأحكام الشريعة الإسلامية، أنشر هنا بعض ما أوردته في كتابي "روح الدستور"[1] الصادر في العام 2007، مع تصرف محدود في النص الأصلي لدواعي الاختصار، ومع إضافة بعض النقاط التي لم ترد في الكتاب، حول أثر العامل الديني في المجتمع الكويتي القديم من جهة نظام الحكم والنظام الاقتصادي والبناء التشريعي، ثم في العهد الدستوري.

 

وقبل ذلك أود أن أبين أن الدستور، بنصوصه الحالية، لا يحول دون إصدار قوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية أو غير متعارضة معها، وبالتالي فإن بإمكان أعضاء مجلس الأمة تقديم اقتراحاتهم التي لا تخالف الشريعة الإسلامية من دون عائق دستوري. وعلى ذلك فلا حاجة دستورية إطلاقا لتعديل المادة (79) من الدستور من أجل تحقيق تلك الغاية.

 

إن الحقيقة السابقة، أي وجود إمكانية دستورية لإصدار قوانين متوافقة مع الشريعة الإسلامية وفقا للنصوص الدستورية القائمة، تجعل الدعوة إلى تعديل المادة (79) من الدستور، وقبلها الدعوة إلى تعديل المادة (2)، تبدو إعلان عجز عن توفير قوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية أكثر من كونها دعوة جادة تهدف إلى "تطبيق" الشريعة الإسلامية. فمن يحمل على كتفيه أمانة تطبيق الشريعة الإسلامية عليه أن يسعى إلى تقديم اقتراحات بقوانين تخدم الصالح العام مستمدة من الشريعة الإسلامية أو لا تخالفها على الأقل.

 

وأود أن أنوه إلى أنني لست متحمسا للتعليق هنا على فكرة تعديل نص المادة (79) من الدستور وما ينتج عنها من إهدار للنظام الدستوري القائم باعتبار أنه لا رئيس الدولة ولا مجلس الأمة يملكان الأهلية اللازمة للإفتاء الشرعي، وهو ما يعني أنه لو تم تعديل المادة (79) من الدستور فلابد من إنشاء هيئة للفتوى ومنحها صلاحية تقرير "إسلامية" القوانين وبالتالي جواز عرضها على مجلس الأمة أو عدم جواز ذلك، وكذلك لابد من إنشاء محكمة "إسلامية" لنظر الطعون في "إسلامية" القانون أو عدم "إسلاميته" وهو ما يسلب مجلس الأمة والأمير والمحكمة الدستورية اختصاصهم الدستوري في إقرار وإصدار القوانين ورقابة دستوريتها.

 

إن ما حفزني للكتابة هو بيان رأيي الشخصي في موضوع تأثير العامل الديني في المجتمع الكويتي، وبيان حدود هذا التأثير في المجتمع القديم وفي عهد الدولة الدستورية.

 

(1) تأثير العامل الديني في المجتمع القديم

يتشكل النظام الاجتماعي من العامل الديني ومن العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية. وسوف نقصر حديثنا هنا على العامل الديني فقط، فهو العنصر الذي يمكن تتبعه في الدستور. أما العادات والتقاليد والأعراف فهي بطبيعتها متغيرة، وبالتالي فإنه من الخطأ أساسا تثبيتها في الدستور، فذلك مدعاة للجمود وهو أمر يتنافى مع طبيعتها ومع مهمة الدساتير.

 

أما بالنسبة للعامل الديني وقيمة الدين في المجتمع، فإنه وإن كان تمسك الناس بتعاليم الدين أو تخليهم عنها أمر متغير أيضا كحال العادات والتقاليد، إلا أن هذا لا يجيز لنا الاستغناء عن تتبع آثار الدين في المجتمع. فالدين ذاته قد يكون جزء من التكوين الثقافي للمجتمع، وجزء من التكوين النفسي لأفراده، وجزء من التكوين الاقتصادي والسياسي أيضا. وعلى ذلك فنحن نبحث هنا أثر الدين لا من جهة مدى التزام الأفراد بأحكامه، ولا من جهة تأثيره على العادات والتقاليد الاجتماعية، بل نبحث في أثره على النظام السياسي والنظام الاقتصادي والبناء التشريعي المنظم للعلاقات في المجتمع. فوجود هذا الأثر أو غيابه هو المقياس الحقيقي والواقعي لمدى تأثير الدين في المجتمع، أما التزام الأفراد بأداء واجباتهم الدينية أو تخليهم عن هذا الالتزام، فهو كما أشرنا أمر متغير يخضع لعوامل نفسية بالدرجة الأولى.

 

 وغني عن القول إن المجتمع الكويتي القديم كان مجتمعا محافظا متمسكا بالفروض الدينية على مستوى السلوك العلني للأفراد. وكان المجتمع القديم يستنكف المجاهرة "بالمعصية". ويمكن الاستنتاج أن الوصف السابق مازال مناسبا للمجتمع الكويتي اليوم مع الأخذ في الاعتبار التغيرات التي طرأت على الكثير من العادات والتقاليد، وتعدد وتنوع أنماط السلوك سواء المحافظ أو المنفتح.

 

ونعتقد أنه من الصعب تتبع تأثير الدين في المجتمع الكويتي القديم قبل ظهور ملامح نظامه السياسي والاقتصادي والتشريعي. بيد أنه يمكننا التأكيد، في النطاق السياسي، على أن سلطة الحاكم في الكويت لم تكن في أي مرحلة من مراحلها سلطة دينية، أي تستند على نظرية التفويض الإلهي المباشر أو غير المباشر مثلا. كما أننا لم نجد ثمة أثر للعامل الديني في اختيار الحاكم الأول للكويت. فهناك رواية يرى صاحبها "أنه لم يكن لصباح الأول شهرة كبيرة قبيل تسلمه شؤون المدينة، وأنه لم يرد لوالده جابر ذكر في الروايات المعاصرة". وهناك رواية أخرى يرى صاحبها "أن سبب اختيار الكويتيين لصباح بالذات هو أنه كانت لوالده الزعامة على قومه منذ أن كانوا في نجد وهذا من ناحية، أما الناحية الأخرى فيرجع إلى أن إقامته كانت مستديمة في الكويت أو في أنحائها على خلاف باقي وجهاء القوم الذين تضطرهم أعمالهم كالملاحة وصيد الأسماك واستخراج اللؤلؤ أن يتغيبوا عن الكويت معظم أيام السنة."[2]

 

 وأيا ما كانت الرواية الصحيحة فإن اختيار صباح الأول لم يتم بناء على قاعدة دينية إطلاقا. وبصرف النظر عن الميول الدينية لحكام الكويت، فإنه لم يتم اختيار أي واحد منهم لاعتبارات دينية إطلاقا. فهناك حكام اشتهروا بالتدين وهناك حكام اشتهروا بابتعادهم عن الدين بنواهيه وأوامره.

 

من جهة أخرى فإن أصول الحكم لم تكن ذات بعد ديني. فليس صحيحا ما يتردد من اعتبار قاعدة التشاور التي أقيم عليها الحكم في الكويت تطبيق للشورى في الإسلام. فالواضح أن الحاكم كان ملزما بالتشاور مع التجار من أجل الحفاظ على حكمه وعلى ما يحصل عليه من عوائد مالية لا من أجل تطبيق قاعدة دينية. كما أن إصرار التجار على التزام الحاكم بمشاورتهم كان لضمان مصالحهم وليس لضمان تطبيق أحكام الدين. ومع ذلك فإن الالتزام بقاعدة التشاور، أيا كان أساسها، هو التزام سياسي لا ديني، وهو التزام متذبذب تتحكم به طبيعة الحاكم والأحداث التي تواجهه. وخير دليل على هذا الأمر الوثيقة التي صدرت عن مجموعة من الأهالي في العام 1921 التي تطالب الحاكم بتأسيس مجلس للشورى بعد أن أرهقهم الحكم المنفرد الذي بدأ في عهد مبارك الصباح وولداه جابر وسالم والذي امتد نحو ربع قرن من الزمان.[3] ومما يلفت النظر هنا أن الحاكم سالم بن مبارك كان قد اشتهر بالتدين، ومع ذلك فإنه حكم البلاد بلا شورى أو تشاور.

 

من جهة أخرى، فقد كان الميل السياسي للحكام يتجه نحو بريطانيا وليس الدولة العثمانية باستثناء الشيخ سالم بن مبارك الذي ظهرت ميوله نحو الدولة العثمانية.[4]

 

ومن جهة أخرى أيضا يتضمن تاريخ الكويت بعض القصص التي يمكن الاستدلال منها في شأن مدى انحسار تأثير الدين في قواعد الإدارة والعدالة، ومن بين تلك القصص "قصة عنبر".[5]

 

أما بالنسبة للقواعد التي تحكم النشاط الاقتصادي في المجتمع القديم، فلم يكن الدين مصدرها. ويتضح ذلك من شيوع الربا بصور عديدة. ومن نظام الغوص الذي يلزم ورثة المدين بسداد دين والدهم حتى وإن لم يترك المتوفى أي أموال يمكن سداد ديونه منها. ومن تسديد الدين عن طريق العمل الإجباري لدى الدائن. وغير ذلك من قواعد تحكم النشاط الاقتصادي وتتعارض مع أحكام الدين.

 

أما عن القضاء، فلم يكن يحكم بما يقضي به الدين إلا في إطار الأحوال الشخصية، أما في الجرائم فقد كانت العقوبات مختلطة. في حين كان فساد بعض القضاة مثار احتجاج الرأي العام الذي طالب أكثر من مرة بإقالتهم.[6] وهناك العديد من الإشارات المهمة التي تدل على أن القضاء لم يكن يطبق أحكام الشريعة الإسلامية، ومن بينها تولي الشيخ عبدالله الجابر الحكم في القضايا وفق ما يراه، وهو يقرر أنه كان يحيل بعض القضايا إلى القضاء الشرعي.[7]

 

من جهة أخرى فإن الاتفاق الذي تم بين الشيخ أحمد الجابر ومجلس الشورى الأول تضمن في أحد بنوده ما يؤكد أن أحكام الدين لم تكن مطبقة في القضاء، حيث جاء في البند الأول من ذلك الاتفاق "أن تكون الأحكام بين الرعية والمعاملات والجنايات على حكم الشرع الشريف". كما نص البند الثاني من الاتفاق على أنه "إذا ادعى المحكوم عليه أن الحكم مخالف للشرع تكتب قضية المدعي والمدعى عليه ويحكم القاضي فيها وترفع إلى علماء الإسلام فما اتفقوا عليه فهو الحكم المتبع".[8] ويمكن القول إن الدلالة الأكيدة لما سبق هي أن أحكام الشرع لم تكن مطبقة، وهو ما دفع إلى الاتفاق على تطبيقها. بيد أن هذا الاتفاق لم يصمد طويلا، ودليل ذلك أنه في العام 1938 نجح المجلس التشريعي الأول في تحقيق إصلاحات عامة من بينها منع العمل بالسخرة وتشكيل إدارة خاصة لإدارة أموال اليتامى والقاصرين وفصل القضاة الفاسدين وإلزام القضاة باستنباط الأحكام من مجلة الأحكام العدلية[9]. أما في العام 1960 فقد صدر أول قانون للجزاء وهو لا يستند إلى أحكام الشريعة الإسلامية على الرغم من محاولة المشرع الإيحاء بغير ذلك، حيث ورد في المذكرة التفسيرية للقانون: "وليس هناك أي تعارض بين قانون الجزاء الذى يصدر اليوم في الكويت وأحكام الفقه الإسلامي التي كان معمولا بها قبل صدور هذا القانون، لا في الجملة، ولا في التفصيل. ذلك أن الفقه الإسلامي، فيما عدا الحدود، فتح باب التعزيز واسعا للقاضي، يدخل منه إلى تحديد الأعمال المعاقب عليها وإلى تقرير العقوبة في كل عمل. فإذا جاء ولي الأمر ورسم للقاضي حدودا واضحة لهذه الأعمال وتقديرا مرنا لهذه العقوبات، فإنه لا يخرج على المبادئ المسلم بها في الفقه الإسلامي، ويكون هذا من باب تخصيص القضاء، والقضاء يتخصص بالمكان وبالزمان وبالموضوع وبالأشخاص كما هو معروف عند الفقهاء".

 

ولو قيل إن المذكرة التفسيرية تشير إلى أن أحكام الفقه الإسلامي في باب العقوبات كانت مطبقة قبل صدور قانون الجزاء، فإن هذا الادعاء الوارد في المذكرة يعني أنه بموجب قانون الجزاء تم العدول عن تطبيق الفقه الإسلامي. هذا وكان، قبل صدور هذا القانون، لبعض أفراد أسرة مبارك الصباح سلطة واقعية مطلقة في توقيع العقوبات.[10]

 

ويشير الدكتور عثمان عبدالملك الصالح إلى أنه "قد يتبادر إلى الذهن أن الشيء الطبيعي حين ينظر حاكم لإمارة إسلامية في تطبيق العدالة بين جماعته أن يسترشد ويستنبط الأحكام والفتاوى التي يصدرها من الشريعة الإسلامية. إلا أن الواقع كان على عكس ذلك تماما.. ويبدو أن مجال تطبيق الشريعة الإسلامية كان منحصرا فيما يتعلق بالأحوال الشخصية.." ويضيف أنه "لم يذكر لنا التاريخ أي سابقة تشير إلى قطع يد السارق، أو رجم الزانية المحصنة، على عكس ما كان يحدث ويحدث الآن في البلاد المطبقة للشريعة الإسلامية كما هو الحال في المملكة العربية السعودية. وهناك أعمال تحرمها الشريعة الإسلامية وتشمل ذلك التحريم بالعقاب، إلا أنها كانت مباحة وشائعة في الكويت. كالربا والتهريب وقطع الطرق".[11]

 

نخلص مما سبق إلى أنه لم يكن للعامل الديني تأثير يذكر على النظام السياسي أو النظام الاقتصادي في المجتمع الكويتي في أي مرحلة من مراحل تطوره. فسلطة الحاكم ليست دينية، والاقتصاد يقوم على مبادئ تتعارض مع الدين، أما القوانين فهي مستمدة من مصادر متنوعة من بينها الشريعة الإسلامية. غاية القول إن تأثير العامل الديني في المجتمع الكويتي القديم ظل يتراوح في إطار ممارسة العبادات وجانب من البناء التشريعي.

 

وإذا أردنا أن نلخص روح المجتمع الكويتي القديم التي كانت تسيطر على أنظمته السياسية والاقتصادية والتشريعية قبل صدور الدستور، فإننا نقول إن المجتمع الكويتي هو مجتمع مجبول على الحرية السياسية، والحكم فيه شراكة تأسست على نمط العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم وليس على أساس الدين، وهو يأبى العنف والتسلط، واقتصاده حر، منفتح على الآخر متعدد الثقافات لا يؤمن بأحادية المصادر، والدين عنده منهج حياة يقيمه الفرد في صلته بربه، فتارة تهب على المجتمع موجة تدين فتتوارى المظاهر التي تتنافى مع الدين، وتارة أخرى تنحسر موجة التدين فتعود تلك المظاهر لتطفو على سطح المجتمع، ولا أثر للدين في شؤون الدولة أو الحكم والإدارة.

وعلى هذا النحو يمكن القول إن المجتمع الكويتي القديم ليس مجتمعا دينيا، وهو يؤمن بالتعددية.

 

(2) تأثير العامل الديني في العهد الدستور ي

أما عن أثر الدين في العهد الدستور ي، فإنه يمكن القول إن روح الدستور تنبعث أساسا من روح المجتمع القديم، وهي الروح التي تعكس الهوية الأساسية للمجتمع التي لا يمكن للدستور أن يتجاهلها مادام أنه يمثل مرحلة من مراحل تطور المجتمع المستقر. وليس هناك من شك في أن مهمة تحويل روح المجتمع القديم إلى نصوص دستورية مكتوبة بصياغة منضبطة مفهومة، ليست بالأمر السهل إطلاقا. فالدساتير هي في نهاية المطاف نصوص نظرية، لكن روح المجتمع القديم هي التي تجعل منها نصوص نابضة. وعلى ذلك فإن صياغة نصوص الدستور قد يحالفها التوفيق في التعبير عن روح المجتمع وقد تفشل في تلك المهمة. ومن هنا فإن فهم وتفسير النصوص الدستورية يجب أن يتعدى الدلالات اللفظية للنصوص من أجل الوصول إلى روح المجتمع وروح الدستور التي تمثلها. أي على من يشرح أو يفسر نصوص الدستور أن يتقمص روح المجتمع القديم التي تشكل المبادئ الأساسية التي قام عليها الدستور، ففي هذه الروح تكمن إرادة المشرع.

 

وقبل محاولة تتبع أثر الدين في الدستور الكويتي، نعيد القول إنه لم يكن للعامل الديني تأثير يذكر على النظام السياسي أو النظام الاقتصادي أو البناء التشريعي في المجتمع الكويتي القديم وفي أي مرحلة من مراحل تطوره. فسلطة الحاكم ليست دينية، والاقتصاد يقوم على مبادئ تتعارض مع الدين، أما القوانين فهي مستمدة من مصادر متنوعة. وقلنا إن تأثير العامل الديني في المجتمع الكويتي ظل يتراوح في إطار ممارسة العبادات.

 

وإذا حاولنا تتبع أثر العامل الديني في الدستور، سنجد أن المشرع الدستوري قد أجاد تقمص روح المجتمع القديم وحافظ بأمانة على تلك الروح ونجح في تحويلها إلى نصوص دستورية.

فالدستور لم يمنح الحكم صبغة دينية أيا كان نطاقها، فالحكم ديمقراطي يميل نحو النظام البرلماني ويبتعد عن النمط الإسلامي في الشورى. كما أن الحكم يقوم على أساس الفصل بين السلطات، وهو ما لم يعرفه تاريخ الدولة الإسلامية لا في ظل الخلافة الراشدة ولا بعدها. كما أن الدستور قدم الانتماء القومي على الانتماء الديني. كما أنه يقر بحرية الاعتقاد ويحمي حرية القيام بشعائر الأديان. كما نص الدستور على رعاية الدولة للفنون التي لا شك أن الرسم والموسيقى من بينها. كما لم يتضمن أي نص يميز بين الرجل والمرأة. كما أنه حرص على النص على وجوب مراعاة النظام العام واحترام الآداب العامة، والدين ليس هو بالضرورة مصدر النظام العام أو الآداب العامة.

 

 وبصفة عامة يمكن القول إنه ليس في الدستور الكويتي ما يخرج أثر العامل الديني عن نطاق العبادات والعلاقة بين الفرد وربه. وليس فيه ما يجعل للدين بصمة في النظام السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي للدولة. وهو في هذا الاتجاه لم يأت بجديد، بل تقمص روح المجتمع الكويتي القديم.

 

أما بالنسبة للمادة (2) من الدستور التي تنص على أن "دين الدولة الإسلام، والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع"، ودلالة ورودها في الدستور، فقد عبرت المحكمة الدستورية في الكويت عن موقفها من نص تلك المادة بقولها إن خطاب المشرع الدستوري في المادة الثانية "هو توجيه سياسي للمشرع للأخذ بأحكام الشريعة الإسلامية ما وسعه ذلك، باعتبارها مصدرا موضوعيا يستلهم منه القواعد القانونية التي يضعها فيما يعرض له من أمور وهي، بعد ليست مصدرا رسميا للقانون وإلا لنص صراحة على ذلك. كما أن نص المادة سالفة الذكر بحسب الصياغة التي وردت بها "مصدر رئيسي" دون النص على أنها "المصدر الرئيسي" يفيد أنها تجعل الشريعة الإسلامية مصدرا ماديا بين المصادر الأخرى للتشريع دون أن تكون مصدره الوحيد، ومن ثم فليس من شأن النص الدستوري أن يلزم المشرع العادي بأن يقتصر فيما يستقيم من قواعد التشريع على الشريعة الإسلامية وحدها، بما لا يكون هناك ثمة ما يمنعه من استمداد تلك القواعد من مصادر أخرى غير الشريعة الإسلامية يراها ملائمة لمقتضى الحال، دون أن يقع بذلك في موقع المخالفة الدستورية ويغدو القاضي من ثم ملتزما بتطبيقها".[12] وقد خلصت المحكمة في حكمها إلى عدم قبول الطعن بعدم دستورية مواد في قانون التجارة تبيح تحصيل الفوائد.

 

وأضيف إلى رأي المحكمة الدستورية أن المادة الثانية من الدستور الكويتي في فقرتيها الأولى والثانية لم تتعامل، دستوريا، مع الدين الإسلامي والشريعة الإسلامية بوصفهما ركنا من أركان دولة دينية. فالكويت دولة مدنية يضمن دستورها حرية الاعتقاد. والشريعة الإسلامية، بمعنى الفقه الإسلامي، ليست سوى أحد مصادر التشريع. ومتى ما كانت مصلحة المجتمع تتطلب إصدار تشريع معين لمعالجة موضوع محدد فالمطلوب هو الإتيان بأفضل القوانين التي تحقق مصالح المجتمع، وليس مهما من بعد مصدر القانون. فالأخذ بأحكام الفقه الإسلامي لا يتم بهدف شكلي هو مجرد الأخذ به، وإنما يؤخذ بأحكام الفقه الإسلامي أو بغيره حسبما تقتضي مصلحة المجتمع. فإن كانت تلك المصلحة تتحقق من خلال أحكام الفقه الإسلامي فيجب الأخذ بها، وإن كانت المصلحة تتحقق بالأخذ بأحكام أخرى فيجب ذلك. والدستور لا يمنع الأمرين.

 

 ولو تمعنا في نصوص الدستور سنجد أنه، عندما أراد تطبيق الشريعة الإسلامية في مجال محدد، نص على ذلك بوضوح شديد، وهو ما فعله بشأن الميراث في المادة (18) وذلك بالنص على أن "... والميراث حق تحكمه الشريعة الإسلامية"، وهذا نص خاص أراد المشرع الدستوري من خلاله منع تنظيم الميراث بموجب قوانين وضعية. لكنه في النص ذاته، أي المادة (18) قرر أن "الملكية الخاصة مصونة، فلا يمنع أحد من التصرف في ملكه إلا في حدود القانون..."، فهو هنا أسند مهمة تنظيم حق الملكية إلى المشرع العادي من دون إلزامه بالأخذ بما يتبناه الفقه الإسلامي. أي أن المشرع الدستوري أخذ بحكم الشريعة الإسلامية حين أراد ذلك بوضوح في حق الميراث، وأخذ بغير أحكام الشريعة الإسلامية من التجارب الغربية في إنجلترا وفرنسا وتطورات الفقه الدستوري سواء في نظام الحكم أو في الحقوق والحريات. وهو كما بينا تقمص روح المجتمع الكويتي القديم بالنسبة للموقف من الدين وإبقاءه في دائرة السلوك الفردي.

 

إن الدستور، بوجود نص المادة (2)، اعتبر الشريعة الإسلامية مصدرا رئيسيا للتشريع إلا أنه، بعدم أخذه بالشريعة الإسلامية بوصفها المصدر الرئيسي للتشريع، إنما يعبر عن الإيمان بتعددية مصادر التشريع. فعلى الرغم من أن دين الدولة الإسلام، وهو دين غالبية السكان، وعلى الرغم من توجه النقاش في لجنة الدستور والمجلس التأسيسي وما ورد في المذكرة التفسيرية، إلا أن المشرع الدستوري أصر على اعتبار الشريعة مجرد مصدر. وهذا الإصرار في الواقع هو إصرار على التعددية لا الأحادية. ولو تمعنا في الدعوة التي وردت في المذكرة التفسيرية للمشرع العادي بالأخذ بأحكام الشريعة الإسلامية، فإننا سنجد أن عبارة "ما وسعه ذلك" التي تلت الدعوة هي إعادة تأكيد تعددية مصادر التشريع، وهي أيضا استدراك فوري حاول المشرع الدستوري من خلاله التخفيف من أثر الدعوة فور صدورها والتي صدرت أساسا من أجل الدفاع عن بقاء النص كما هو، ومن أجل تحقيق التوازن بين الاتجاهات المختلفة.[13]

 

أما عن أثر العامل الديني في البناء التشريعي بعد العمل بالدستور، فأرى أن أهم أثر كان تعديل نص الفقرة الثانية من المادة الأولى من القانون المدني. ففي عام 1980 صدر القانون المدني، وكانت الفقرة الثانية من المادة الأولى منه تنص على أنه: "فإن لم يوجد نص تشريعي، حكم القاضي بمقتضى العرف. فإن لم يوجد عرف، اجتهد القاضي رأيه مستهديا بأحكام الفقه الإسلامي الأكثر اتفاقا مع واقع البلاد ومصالحها".

 

وبموجب الفقرة الثانية من النص السابق، كان العرف متقدما على أحكام الفقه الإسلامي كمصدر احتياطي للقاعدة القانونية. وقد أوردت المذكرة الإيضاحية للقانون المدني حجة المشرع في هذا التقديم ودفاعا عنه بقولها:

"والواقع أن تقديم مبادئ الشريعة الإسلامية على العرف لا يتفق تماما مع منطق ترتيب مصادر القانون، لأن العرف من أهم المصادر التي توجب الشريعة والفقه الإسلامي اعتمادها، واعتماد مبادئ أو أصول الشريعة الإسلامية مؤداه اعتماد العرف الذي له في الشريعة اعتبار أساسي في بناء الأحكام. فالأصل في المعاملات هو ما تراضى عليه الناس أو جرى به العرف بينهم، إلا أن يتراضوا أو يتعارفوا على ما يخالف حكم الشرع، من تحليل حرام أو تحريم حلال، وقد قرر القرآن الكريم والسنة النبوية هذا الأصل، فقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم"، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه: "أنتم أعلم بأمر دنياكم"، وقوله فيما رواه أحمد في مسنده: "ما كان من أمر دينكم فلي، وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به". ولذلك فقد اشتهر على ألسنة الشرعيين قولهم العرف في الشرع له اعتبار وقولهم العرف شريعة محكمة ومن ثم يكون ذكر العرف بعد مبادئ الشريعة من قبيل التزيد مادام أن العرف يعتبر من أهم المصادر في الشريعة الغراء...".

 

إلا أنه بموجب القانون رقم 15 لسنة 1996 تم تعديل الفقرة الثانية من المادة الأولى من القانون المدني، لتصبح على النحو التالي:

"فإن لم يوجد نص تشريعي، حكم القاضي وفقا لأحكام الفقه الإسلامي الأكثر اتفاقا مع واقع البلاد ومصالحها فإن لم يوجد حكم بمقتضى العرف".

 وكان الهدف من التعديل، كما تقرر المذكرة الإيضاحية للقانون رقم 15 لسنة 1996 بتعديل بعض أحكام القانون المدني، "تقديم أحكام الفقه الإسلامي الأكثر اتفاقا مع واقع البلاد ومصالحها على العرف وحتى تصبح أحكام الفقه الإسلامي مصدرا أساسيا يرجع إليه القاضي إذا لم يجد نصا تشريعيا".

 

وخلاصة ما سبق كله هي أنه:

 ليس في الدستور ما يمنع إطلاقا إصدار قوانين تكون الشريعة الإسلامية مصدرها، وبالتالي فلا توجد حاجة لتعديل الدستور.

إن الشريعة الإسلامية لم تكن مصدر النظام السياسي أو النظام الاقتصادي أو البناء التشريعي في الكويت، قبل الدستور وبعده.

إن المجتمع الكويتي مجتمع مدني متسامح، يكفل دستوره تفوق إرادة الأمة على إرادة رئيس الدولة، ويعتمد اقتصاده على مبادرة رأس المال بما لا يلحق الضرر بالأفراد، ومدنيته تكرس التعددية وتنبذ الأحادية، وتسامحه يحترم الحرية الشخصية ويبغض التشدد.

 

 



[1] محمد عبدالقادر الجاسم، روح الدستور، مدخل إلى فكرة الدولة والقانون، دار قرطاس للنشر، 2007

[2] د. عثمان عبدالملك الصالح، النظام الدستوري والمؤسسات السياسية في الكويت، جامعة الكويت، 1989هامش ص 32

[3] جاء في الوثيقة التي قدمها الأهالي فور وفاة الشيخ سالم بن مبارك "نحن الواضعون أسماءنا بهذه الورقة قد اتفقنا على عهد الله وميثاقه بإجراء البنود الآتية (1) أولا: إصلاح بيت الصباح كي لا يجري بينهم خلاف في تعيين الحاكم. (2) أن المرشحين لهذا الأمر هم الشيخ أحمد الجابر والشيخ حمد المبارك والشيخ عبدالله السالم. (3) إذا اتفق رأي الجماعة على تعيين أي شخص من الثلاثة يرفع الأمر إلى الحكومة للتصديق عليه. (4) المعين المذكور يكون بصفة رئيس مجلس شورى. (5) ينتخب من آل الصباح والأهالي عدد معلوم لإدارة شؤون البلاد على أساس العدل والإنصاف." وللاطلاع على تفاصيل أكثر أنظر محمد عبدالقادرالجاسم، الكويت.. مثلث الديمقراطية، 1992

[4] لمتابعة هذه المسألة ننصح بقراءة سيف مرزوق الشملان، من تاريخ الكويت، الطبعة الثانية، 1986، ذات السلاسل، ص 214 وما يليها

[5] وقعت أحداث هذه القصة في عهد الحاكم الرابع الشيخ صباح الثاني (1859-1866)، "كان عنبر من العبيد المقربين إلى الشيخ صباح وكان عمله تحصيل الرسومات وكانت هناك قافلة تريد السفر إلى نجد وفيها كثير من أموال الكويتيين فطال مكثها ولم يحصل عليها رسما فخاطبه "عبدالله العنقري" أحد وجهاء الكويت فأغلظ عنبر له القول. فأفضى الأمر إلى التساب بينهما. وبعد ذلك رأى عنبر عبدالله منفردا فانهال عليه ضربا حتى أغمي عليه. وهناك ثار وجهاء البلد وأعيانها على ما عمله عنبر. فذهبوا إلى الشيخ صباح وطلبوا منه أن ينفي عنبرا خارج الكويت لعمله الشنيع. فلم يوافقهم صباح وقال لكم علي أن أفصله من عمله واضربه وأسجنه. فقالوا لا يرضينا إلا نفيه. وإذا لم تستجب لطلبنا فسوف نغادر الكويت غير آسفين عليها. فقال لهم كيف يسعكم ذلك وهي أمكم؟ فقالوا يسعنا لأنها اساءت إلينا ولم تعطف علينا. فقاموا من عنده مغاضبين وكان ابنه الشيخ محمد حاضرا في المجلس فرأى على وجوههم تصميما على الهجرة. فشق عليه الأمر ونهض من وقته إلى عنبر فقتله. فسكنت ثائرتهم وكفوا عما عزموا عليه". أنظر سيف مرزوق الشملان، مرجع سابق، ص131

 

[6] د. نجاة عبدالقادر الجاسم، التطور السياسي والاقتصادي للكويت، مرجع سابق، ص175

[7] للاطلاع على التفاصيل، أنظر يوسف شهاب، رجال من تاريخ الكويت،1984، ص 150 وما يليها

[8] حسين خلف الشيخ خزعل، تاريخ الكويت السياسي، الجزء الخامس، مرجع سابق، ص15

[9] مجلة الأحكام العدلية تتضمن تدوين لأحكام الفقه الإسلامي في المعاملات المالية على المذهب الحنفي، وقد أصدرتها الدولة العثمانية عام 1869 تم تطبيقها في الكويت نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي ثم تم إلغاء العمل بها بصدور القانون المدني عام 1980

[10] كان الشيخ عبدالله الأحمد من أشهر الشيوخ الذين يملكون سلطة معاقبة الناس

[11] د. عثمان عبدالملك الصالح، مرجع سابق، ص 42

[12] الحكم الصادر في الطعن الدستوري رقم 3 لسنة 1992 بتاريخ 18 نوفمبر 1992

[13]  لقراءة موسعة بشأن نص المادة الثانية من الدستور الكويتي، محمد عبدالقادر الجاسم، روح الدستور، دار قرطاس للنشر، 2007