loading ..loading
صبغة دينية!
27th January 2018

في الفقرة الثانية، الصفحة 175، وبعد أن خلصت إلى إدانة المتهمين وقبل بيان العقوبات، قالت محكمة الاستئناف في قضية "دخول المجلس":

"وحيث إن المحكمة وقد انتهت من قضائها على نحو ما تقدم واجتهدت في هذا القضاء في حدود ما حوته الأوراق، فإن كانت قد أصابت فلها أجران وإن أخطأت فلها أجر واحد...".

فما مقصود المحكمة من "الاجتهاد" و"الإصابة" و"الخطأ" و"الأجر" و"الأجران

¬  أما عن "الأجر"، فلأنه ليس في قانون تنظيم القضاء قاعدة كهذه تمنح القاضي المصيب ضعف أجر القاضي المخطئ. لذلك فمن المؤكد أن المحكمة لم تكن تقصد الأجر المادي. لكنها ربما عنت "الثواب الإلهي".

¬  وما قصد المحكمة من وراء استخدام كلمة "الاجتهاد

المحكمة لم تطبق أحكام الفقه الإسلامي في قضية "دخول مجلس الأمة"، ولم تضع في حكمها قاعدة شرعية "اجتهدت" في استنباطها من الفقه الإسلامي. والذي أعرفه في المحاكمات الجزائية وفق القانون الكويتي، أن القاضي لا يطبق أحكام الفقه الإسلامي، وبالتالي فهو لا يجتهد إطلاقا في استنباط أحكام من هذا الفقه، إنما يحكمه القانون الوضعي وما تقرره محكمة التمييز من مبادئ وتؤثر في أحكامه آراء الفقه القانوني، أو هكذا يفترض.

في موقع الشيخ بن باز رحمه الله، وجدت التالي:

"أما حديث الاجتهاد حديث عمرو بن العاص وما جاء في معناه وهو في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر)، هذا في العالم الذي يعرف الأحكام الشرعية، ليس بجاهل، ولكن قد تخفى عليه بعض الأمور، وتشتبه عليه بعض الأمور، فيجتهد ويتحرى الحق وينظر في الأدلة من القرآن والسنة ويتحرى الحكم الشرعي فلا يقدر أنه يصيبه، فهذا له أجر الاجتهاد، ويفوته أجر الصواب، لأنه عالم صالحٌ للقضاء ولكن فيه بعض المسائل قد يغلط بعد الاجتهاد والتحري والنية الصالحة، فهذا يعطى أجر الاجتهاد ويفوته أجر الصواب. الثاني اجتهد وطلب الحق واعتنى بالأدلة وليس له قصدٌ سيء بل هو مجتهد طالب للحق فوفق له واهتدى له وحكم بالحق فهذا له أجران، أجر الإصابة، وأجر الاجتهاد".

ولأنه لا مجال، في حكم محكمة الاستئناف، للاجتهاد بالمعنى السابق، فربما كانت المحكمة تعني بتعبير "اجتهدت" أنها بذلت ما لديها من "جهد" وطاقة في سبيل الوصول إلى الحقيقة في قضية "دخول المجلس". فالاجتهاد هنا مشتق من الجهد كما القول بأن فلان طالب مجتهد. لكن هذا المعنى لكلمة "الاجتهاد" لا محل له في الحكم، ذلك أن المحكمة ربطت بينه وبين الخطأ والصواب والحصول على ثواب إلهي مفرد أو مضاعف!

¬  كذلك ماذا تقصد المحكمة بقولها "إن أصابت... وإن أخطأت..."؟

من الواضح هنا أن المحكمة ربطت "الإصابة والخطأ" مع مسألتي "الاجتهاد" "والثواب الإلهي". فهل سعت محكمة الاستئناف إلى إضفاء "صبغة دينية" على حكمها؟!

بالطبع لا مكان لتلك الصبغة الدينية في حكم مبني على قانون وضعي، حتى لو كان هذا قصد المحكمة.

وبعد استبعاد "الصبغة الدينية"، فما أعرفه أنا، وفقا للقانون ولمبادئ محكمة التمييز، أنه يجب على المحكمة أن تبني حكمها على اليقين لا على الظن ولا على الاحتمال. وأعرف أيضا أنه إذا تسرب الشك إلى أدلة الاتهام، وجب على المحكمة أن تقضي بالبراءة لا الإدانة. لكن من الواضح هنا أن المحكمة عبرت عن قلقها وعدم تيقنها وهذا خطأ قانوني فادح. ولا ننسى أن المحكمة لم تستمتع إلى دفاع عدد كبير من المتهمين!

ولأن الأمر كذلك، فإنه ليس أمامي سوى أن أقول إن المحكمة استعارت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بشأن أجر الاجتهاد الشرعي، استعارة في غير محلها إطلاقا.

 وعلى ذلك فقد أخطأت محكمة الاستئناف حين أسبغت على حكمها بالإدانة في قضية "دخول المجلس"، وصف "الاجتهاد".

 وأخطأت أكثر حين خلصت أن لها "أجر الاجتهاد"، إن أخطأت في حكمها وضعفه إن أصابت، فلست أظن أن أجر الاجتهاد الوارد في حديث الرسول الكريم ينصرف إلى قضاة يحكمون وفق قانون وضعي. فالقاضي، في غير مسائل الأحوال الشخصية، لا يجتهد في أمور الدين، ولا هو قائم بالإفتاء الشرعي.

لذلك يبقى السؤال قائما ماذا تعني المحكمة "بالاجتهاد"، وماذا تعني بالصواب والخطأ وماذا تعني بالأجر؟

إن التزام القاضي بأحكام القانون واجب مفروض عليه. وللتحقق من التزامه القانون، يتم تداول أحكام القضاء، وتعرض على محاكم أعلى، وتناقش من قبل أهل الاختصاص. ومن المفترض ألا يولى القضاء إلا من لديه علم بالقانون، ومن يتمتع بحسن سير وسلوك. وإذا ما انكشف جهل القاضي وجب عزله، وإذا ما ساءت سمعته وجب عزله أيضا. والتزام القاضي بمبدأ الحياد وهو يقضي في المنازعات هو التزام مفترض لأنه من موجبات وظيفته. ومن يلتزم الحياد من القضاة لا يشكر فهذا فرض عليه.

وأيا ما كان الرأي الشرعي في المسألة، فإن محكمة الاستئناف بقولها تلك العبارة إنما هي عبرت على نحو صريح جدا عن عدم تأكدها من صحة حكمها بحبس المتهمين.

إن المقرر في القانون أن القاضي يحكم بمقتضى الأدلة المعروضة عليه،

ومن المقرر في قضاء المحاكم العليا في العالم أجمع أن الشك يفسر لمصلحة المتهم،

وأن أحكام القضاء لا تبنى على الظن والاحتمال بل على اليقين،

لذلك حين تقول المحكمة، إنها اجتهدت في حكمها بإدانة المتهمين، وإنها إن كانت قد أخطأت في هذا "الاجتهاد" فلها أجر واحد، فهذا يعني أن المحكمة ليست واثقة تماما من صحة الإدانة. وقد كان عليها أن تحكم بالبراءة ما دامت غير واثقة من صحة الإدانة.

ولو سايرنا المحكمة في مسألة "الاجتهاد" وتعدد الأجر أو تفرده، فكيف لنا أن نقبل حبس الناس بالمخالفة للصواب؟!

 هل يقبل العقل والمنطق أن تكسب المحكمة أجر واحد وتخسر آخر، حين تخطئ، فيما يخسر المحكوم عليه بالخطأ تسع أو سبع، أو خمس سنوات من عمره في السجن؟!

إن الحكم في القضايا الجزائية وفق القانون الوضعي يخرج عن نطاق حديث الرسول الكريم، وكان على المحكمة، إذا لم تكن متيقنة من صواب الإدانة، فإن البراءة أدعى من حبس الناس... هذا ما يقرره القانون الوضعي الذي يطبقه القاضي.

من الناحية القانونية، فقد كشفت محكمة الاستئناف عن اضطراب قناعتها وشكها هي ذاتها في صحة حكمها، وأن حكمها مبناه الظن والاحتمال لا اليقين!

في حكم حديث لمحكمة النقض المصرية، ذهبت المحكمة إلى أن الحكم الابتدائي قد اختلت فكرته واتسم بالاضطراب لأنه استعمل حرف "أو" حال أن موضعه في اللغة العربية الاختيار بين أمرين مستقلين ومتغايرين، وفي هذه الـ "أو" لم يحسم الحكم الابتدائي أساس الإدانة فاستحق النقض!